Monday, November 25, 2024
x

“تعلموا منى لأني وديع ومتواضع القلب” (مت 11: 29) من كتاب حياة التواضع والوداعة للبابا شنودة

In تعليم كنسى on . Tagged width:

هناك من وُلدوا من بطون أمهاتهم ودعاء، بطبع هادئ لم يتعبوا في اقتنائه، إنما نالوه عن طريق الوراثة، أو هبة من الله وهبهم إياها، بعكس البعض الذين يُولدون بطبع ناري يميل إلي العصبية أو إلي العنف..

ولسنا عن الوعاء بالطبع أو الميلاد أو الهبة، نتكلم هنا..

إنما نتحدث بصفة عامة عن كيفية اقتناء الوداعة أو تعوَدها..
الإنسان الذي يصل إلي الوداعة بجهاد وضبط النفس ومحاولات للسيطرة على أعصابه وعلي إرادته، هذا يكون أجره عند الله أكبر.

إنه يجاهد -ربما بتداريب كثيرة- لكي يضبط ذاته، ويضبط أفكاره وألفاظه، وحركاته، ويقتنى كل أنواع الهدوء.. ويتخلص من الغضب والنرفزة بكل أنواعها وكل نتائجها.

إنها وداعة ليست طبيعية وإنما مكتسبة. مثالها القديس موسى الأسود، الذي كان غضوبًا وقتالا وحاد الطبع، بل كان مخيفًا أيضًا. ولكنه بضبط النفس، وبالتدريب والصبر، وبحكمة المرشد ومعونة الله، صار وديعًا جدًا. وقد اختبروا وداعته يوم سيامته قسًا، ونجح في الاختبار.

ومادام الله يطلب منا أن نكون ودعاء، فلابد أنه قد وضع في إمكانية طبيعتنا الوصول إلي هذه الفضيلة، وتنفيذ وصيته فيها (مت 11: 29).

*تدرب يا أخي إذن على الهدوء، وابدأ مثلًا بهدوء الصوت:

في حديثك العادي، أبعد عن الصوت العالي. وحاول أن يكون صوتك منخفضًا خفيفًا ولا شك أن هذا أمر سهل. تدرج منه إلي الصوت الهادئ غير الحاد. فلا تتكلم بعنف ولا بشدة، محتفظًا بأعصابك حينما تتكلم، متحكمًا في نبرات صوتك..

فإن تدربت على هدوء الصوت، تدرَب أيضًا على هدوء الملامح.

لأن الشخص الغضوب، يظهر غضبه في ملامحه، وفي نظرات عينيه، وفي تجهمه وتقطيب جبينه. فإن وجدت أنك قد وصلت إلي هذا كله، أو إلي بعض منه، قل لنفسك: إن شكلي الآن أصبح لا يليق، بل ربما أصبح منفرًا.. وحينئذ حاول أن تُهدئ ملامحك وستجد أنك مضطر في نفس الوقت أن تهدئ انفعالاتك الداخلية.. *نقطة ثالثة: وهي هدوء الحركات.

الشخص الغضوب قد يظهر غضبه في عدم هدوء حركاته، وبخاصة في حركات يديه

في العسكرية لا يستطيع جندي أن يحدَث أحد رؤسائه وهو يحرك إحدى يديه، بل يُقال له “اثبت”.. كذلك أنت، حاول أن تضبط ليس فقط حركات يديك، بل حركاتك، وكن هادئًا في جلستك، وفي مشيتك، لا تتململ، ولا تظهر العصبية عليك، ولا تبدو أمام الناس منفعلًا..

*وفي كل ذلك تدرَب على هدوء ألفاظك. غير الودعاء تصدر عنهم ألفاظ قاسية عنيفة، أو ألفاظ متهكمة تثير محدثيهم، أو ألفاظ تدخل في نطاق الشتيمة والإهانة. أو أنهم في غضبهم: إذا تكلموا لا يراعون دقة الألفاظ فتمسك عليهم أخطاء. وقد يكونون في كلامهم غير مهذبين، يستخدمون ألفاظًا جارحة، أو غير لائقة، أو ألفاظًا تخرج عن حدود الأدب والوقار والحشمة. وكل هذا ضد الوداعة..

أما أنت فحاول أن تضبط ألفاظك. وإن لم تستطع ذلك في غضبك، إذن حاول أن تضبط غضبك. أو على الأقل: إن غضبت، اصمت. وقل “ضع يا رب حافظًا لفمي، وبابًا حصينًا لشفتي” (مز 141: 3).

*علي أن أهم من هذا كله، هدوء القلب ووداعته.

فالوداعة في أصلها هي وداعة القلب. القلب الوديع يكون وديعًا في كل شيء: في صوته، في ملامحه، في ألفاظه، في أعصابه، في حركاته. لأن كل هذه مظاهر خارجية تعبر عن حالة القلب من الداخل. ومع ذلك فالتدريب عليها يوصل إلي وداعة القلب، أو ينبه القلب إلي الالتزام بالوداعة.

*علي أن وداعة القلب ترتبط بفضائل أخري كثيرة.

لعل في مقدمتها التواضع. فالإنسان المتواضع يتصرف في وداعة. والسيد المسيح جمع الفضيلتين معًا في آية واحدة، حينما قال “تعلموا منى لأني وديع ومتواضع القلب” (مت 11: 29)؟ كذلك المحبة أيضًا إن عاش الإنسان فيها، يحيا بالضرورة في حياة الوداعة. فالمحبة كما قال الرسول: تتأنى، وترفق، ولا تقبح، ولا تحتد، ولا تظن السوء، وتحتمل كل شيء، وتصبر على كل شيء (1كو 13: 4-7). وكل هذه من صفات وعناصر الوداعة أيضًا.

كذلك الوداعة ترتبط بفضائل اللطف، والهدوء، وطول الروح، وسعة الصدر، والتسامح، وربح النفوس، والحكمة. فمن يقتنى هذه الفضائل وأمثالها، يقتنى الوداعة أيضًا.

والوداعة تُقتنى أيضًا بعمل النعمة في القلب.

ويحتاج الإنسان أن يطلب ذلك في صلاته، وأن يتجاوب عمليًا مع عمل النعمة فيها ويشترك مع الروح القدس الذي يقوده إلي الوداعة. فإن اقتنينا الوداعة، نحرص ألا نفقدها. فما أسباب فقدها.