Friday, November 22, 2024
x

“قيامة المسيح” مِن خلال الإيقونة

In تاريخ الكنيسة on . Tagged width:
في غمرة فرحنا بقيامة ربنا يسوع المسيح مِن بين الأموات، وبدخولنا الزمن “الخمسينيّ”، زمن النعمة والرجاء و”الحياة بوَفرة”، يَسرّنا أن نقوم برحلة روحيّة “رُباعيّة المحطّات”، نتأمل فيها بحدث “القيامة”، مِن خلال قراءة “للثُلاثيّة الإيقونوغرافيّة” المُتّصِلة مُباشرةً بهذا الحدث العظيم… وسوف تكون محطّتنا الأولى عبارة عن مُقدّمة تمهيديّة لا بدّ منها، لفهم الخلفيّة اللاهوتيّة لموضوعنا. أما المحطّات الثلاث الباقية، فنتوقّف في كلّ منها عند إيقونة مِن “الثُلاثيّة القياميّة”، مُبتهِلين إلى الربّ “القائم مِن بين الأموات” لأجل خلاصنا، أن يكون مُرشدنا في رحلتنا هذه، ورفيقنا الدائم في جِدّة الحياة…
+++
المحطّة الأولى… أضواء على الخلفيّة “الكتابيّة – اللاهوتيّة” لإيقونوغرافيا “القيامة”
أولاً – “قيامة المسيح” وأبعادها في حياتنا:
لا شكّ في أن “قيامة المسيح” كانت الحدث الحاسم الذي أرسى تحوّلاً جذريّاً في تاريخ البشريّة، كما أنها كانت ولا تزال، الحدث الأكثر إثارة للجدل منذ حدوثها وحتى يومنا هذا، وذلك لأنها تطرح تحدّياً “إيمانيّاً – حياتيّاً” أمام الإنسان، كلّ إنسان… حتى ليُمكِننا القول “إن ما بعد القيامة ليس أبداً كما ما قبل القيامة”، أو “ما قبل القيامة شيء، وما بعدها شيء آخر تماماً”… فبقيامته، أقام المسيح طبيعتنا البشريّة المائتة بسبب الخطيئة (التغرّب عن الله)، ووهبها حياةً جديدةً مِن حياته، هو القائل عن نفسه “أنا القيامة والحياة” (يو 11: 25)… في هذا الإطار، نقول إنه بقيامته قد أعطى مصداقيّة لمضمون كرازته كاملةً، ولا سيّما لكلامه عن قيامة الأموات وإحيائه أمواتاً بسلطانه الخاصّ، كما أيضاً لكلامه عن الحياة الأبديّة التي ستكون نصيب كلّ مَن يؤمن به، وأيضاً وخصوصاً لكلامه عن موته شخصيّاً، ثم قيامته بسلطانه الخاصّ “لي سلطان أن أبذلها (نفسي)، ولي سلطان أن أسترجعها” (يو 10: 18)… فلولا قيامة المسيح، لَكان صليبه بدون معنى، ولكانت كرازته بجملتها مُجرّد “حُلم جميل”، إنتهى على شكل “كابوس مُريع”…
بقيامة المسيح، لم يعُد الموت ذلك “الوحش” المُتربّص بكلّ إنسان منذ ولادته حتى إنتهاء حياته “الترابيّة”…
بقيامته، لم يعُد الموت مصدر قلق مُتواصِل يجرّ الإنسان إلى عبادة أوثان ومُمارَسات ومُعتقدات غريبة عجيبة…
بقيامته، أحيا الرجاء في قلوب البشر، وأعطى معنى جديداً للحياة البشريّة…
بقيامته، قال الله كلمته الأخيرة النابعة مِن محبّته للبشر، محبّة وصَلَت إلى أقصاها، “حتى الموت” كما يُقال شعبيّاً (“أنا بموت فيك”). فالله “مات فينا”، لكي نحيا فيه…
لن ندخل في مُطالعة لاهوتيّة حول “القيامة” وحقيقتها والبراهين عليها، بل نكتفي بالقول إنها موضوع إيمان نابع مِن إختبار حيّ لشخص حيّ، هو “القائم مِن بين الأموات”… في هذا الإطار، لم يكُن “القبر الفارغ” دليلاً قاطعاً على قيامة المسيح، بل على العكس مِن ذلك، قد يُستخدَم كدليل على “سرقة الجسد” (كما روّج صالبوه، وكما إعتقدت مريم المجدليّة نفسها)… لكن السيّد قد “حضر” (ظهر) وسط تلاميذه، ولمريم المجدليّة وآخرين… إنه “الحاضر” وسط الغياب (الظاهريّ)، وقد قام ليكون “حاضراً” معهم (ومعنا) إلى الأبد… وهو قد أظهر نفسه بطريقته الخاصّة لكي يتعرّفوا إليه، هم الذين لا يزالون “تُرابيّين” خاضعين لمقاييس هذا العالم (مِن زمنيّة ومكانيّة)… وقد دوّن الإنجيليّون الأربعة، كلّ مِن زاويته، رواية أحداث “اليوم الأول مِن الأسبوع” وإختبارهم “للقائم مِن بين الأموات”…
+++
ثانياً – دور أو رسالة الإيقونة:
بناءً على ما سبق، وبما أن موضوع رحلتنا التأمليّة هو “القيامة مِن خلال الإيقونة”، لا بدّ مِن التذكير بأن الإيقونة ترتكز في الأساس إلى النصوص الكتابيّة… فكما أن الأناجيل كُتِبَت بهدف لاهوتيّ تعليميّ، وبالإرتكاز إلى إختبار الرسل “للحيّ القائم مِن بين الأموات”، كذلك الإيقونة ترتكز إلى إختبار هؤلاء وإختبار الكنيسة، لتوصِل لنا الفكرة اللاهوتيّة بشكل منظور… بذلك، تكون الإيقونة أداة أخرى للكرازة وللتأمل بالتدبير الخلاصيّ، تعمل على مُخاطبة “حاسّة البصر” لدينا، مِن أجل أن “نرفع قلوبنا إلى العلاء”، فننتقل مِن “البشريّ” إلى “الإلهيّ”، ومِن “الأرضيّ” إلى “السماويّ”، ومِن “الزمنيّ” إلى “الأبديّ”… فإلى هذا “الإرتفاع”، نحن مدعوّون.
————————————————
ثالثاً – “القيامة”… إيقونات عدّة لحدث واحد:
تتميّز إيقونات الأعياد السيّديّة إجمالاً (سواء مِن الدرجة الأولى أو الثانية) بمشهديّة تعبيريّة واحدة للحدث المُخبَر عنه فيها، ولو إختلفت بعض التفاصيل “العَرَضيّة” بين نُسخة وأخرى مِن الإيقونة نفسها… وسبب هذا الأمر يعود إلى “وضوح الحدث” للعيان وللكُتّاب الإنجيليّين، كما إلى وجود شخص السيّد في الحدث (مُعظم الأحيان)… ففي حدث “التجلّي” مثلاً، هناك مَن رأى الربّ يتجلّى (ولو قِلّة)… وفي حدث “الصلب”، هناك مَن رأى السيّد مصلوباً (وهم كُثُر جداً)… حتى في إيقونة “العنصرة” (حيث السيّد ليس موجوداً بالجسد)، فإن الحدث واضح والشهود عليه كثيرون…
إلا حدث “القيامة”… فهو الحدث الوحيد الذي لم يكُن أحد شاهداً عليه لحظة حصوله…
في هذا الإطار، يهمّنا التأكيد على أنه في الفنّ الإيقونوغرافيّ البيزنطيّ (التقليديّ على الأقل)، لا توجد أيّة إيقونة تُصوّر لنا المسيح لحظة قيامته وخروجه مِن القبر (كما هو شائع في الإيقونات والصوَر الغربيّة)، وذلك تماشياً مع النصوص الإنجيليّة التي لا تأتي أبداً على وصف تلك اللحظة، لأن هذه الأخيرة هي: (1) مِن أسرار وخصوصيّات ربنا، و(2) لم يكُن أحد شاهداً عليها في الأساس… لذلك، ليست هناك أيّة إيقونة “لفعل القيامة” بالمعنى الحرفيّ للكلمة (ولو أننا نرى بعض “الإيقونات الجريئة” في هذا المجال)، بل إيقونات تتمحور حول حدث “القيامة” وشخص “القائم”.
بناء عليه، نجد في الفنّ الإيقونوغرافيّ البيزنطيّ، ثلاث إيقونات رئيسيّة تتمحور حول حدث “قيامة المسيح”، ويُكمِّل بعضها بعضاً، ألا وهي: (1) “الإنحدار إلى الجحيم”، (2) “حاملات الطيب عند القبر الفارغ”، و(3) “ظهور السيّد لمريم المجدليّة” (وحدها)، أو “ظهوره لمريم المجدليّة ولمريم الأخرى”…
فالأولى تستند إلى تقليد كان سائداً، عن مصير النفس البشريّة بعد الموت الجسديّ (فكرة “الجحيم” = مثوى الأموات)، والذي نرى أصداء عديدة له تتردّد منذ زمن “العهد القديم” وصولاً إلى زمن “العهد الجديد”، والكتابات الآبائيّة… أما الإثنتان الأُخرَيان، فتستنِدان صراحةً إلى الروايات الإنجيليّة المُتعلِّقة بأحداث صباح ذلك اليوم، “الأول مِن الأسبوع”…
بالعودة إلى النصوص الكتابيّة (عند الإنجيليّين الأربعة) ذات الصِلة بحدث “القيامة”، نلاحظ أن أشخاصاً عديدين ذهبوا إلى القبر صباحاً، ليجدوه فارغاً إلا مِن الأكفان ومنديل الرأس (النسوة أولاً، ثم بطرس ويوحنا)… وأن منهم مَن تلقّى بُشرى القيامة مِن الملاك الجالس على الحجر المُدحرَج (النسوة)، ومنهم مَن إلتقى “بالقائم مِن بين الأموات” (مريم المجدليّة أولاً، ثم التلاميذ بشكل متفرّق وجماعيّ)… لذلك، فإن شهادة مَن نُسمّيهم “بشهود العيان” (التلاميذ ومريم المجدليّة)، مُرتكِزة إلى لقائهم “بالحيّ القائم مِن بين الأموات”، الذي أظهر ذاته لهم بإرادته وبحسب تدبيره، وليست أبداً مُرتكِزة إلى رؤيته “لحظة خروجه مِن القبر”… فالإيمان بالقيامة هو ثمرة إختبار حضور شخص “القائم مِن بين الأموات” في حياة الإنسان أو وسط الجماعة… فتأتي الإيقونة لتبني على النصوص الإنجيليّة، وتُترجِم هذا الإيمان بالأشكال والألوان، وجُلّ همّها أن تُدخِلنا في السرّ العظيم الذي تجلّى في صبيحة “ذلك اليوم”…
بهذه الخلفيّة، نختم وقفتنا في المحطّة الأولى مِن رحلتنا، مُستعدّين للمحطّات الثلاث القادمة، التي سوف تأخذنا تِباعاً “إلى أقصى أسافل الأرض” (مع المسيح في الجحيم)، ثمّ إلى “القبر الفارغ” (بحثاً عن المسيح بدايةً، بعدها البُشرى الأولى بقيامته)، وأخيراً إلى اللقاء الشخصيّ بالمسيح القائم والمُمجّد (مع مريم المجدليّة ومريم الأخرى)… ومُذكِّرين بأن قراءتنا التأمليّة “للثُلاثيّة القياميّة” سوف تُنشَر تباعاً في الأيام المُقبلة (واحدة أسبوعيّاً)، راجين مِن قرّائنا الأحبّاء أن يذكرونا في صلواتهم، لا سيّما في “هذا الموسم البهيّ السَنِيّ”…
“المسيح قام – حقاً قام”
✝️✝️✝️
ملاحظة: الإيقونات الثلاث (أدناه) هي مثال بارز “للثُلاثيّة القياميّة” (موضوع رحلتنا)، وهي تنتمي إلى إحدى مجموعات إيقونات دير “ستافرونيكيتا” (جبل آثوس – اليونان)، وتُنسَب إلى “ثيوفانيس الكريتيّ” مِن القرن السادس عشر.
توفيق ناصر (خريستوفيلوس)