Wednesday, November 27, 2024
x

وثيقة البابا والشيخ وغلبة الوقائع

ليس أدلّ على هزالة التواصل الديني الرسمي بين المسيحية والإسلام، سوى العودة إلى الوراء 800 سنة للحصول على سابقة يمكنها أن تكون، ولو بجهد جهيد، شبيهة بزيارة البابا فرنسيس لدولة الإمارات العربية المتحدة، حيث وقع مع الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيّب، شيخ الأزهر الشريف وثيقة “الأخوة الإنسانية”.

الحدث التاريخي الذي أعيد إلى الأذهان هو حوار ديني في العام 1219 ميلادي في مدينة دمياط المصرية بين القديس فرنسيس الأسيزي، من جهة وبين السلطان الكامل محمد الأيوبي، من جهة أخرى.

اللقاء التاريخي كان سببه المباشر أسر القديس فرنسيس الذي دخل إلى مصر خلسة لنشر الديانة المسيحية بين المسلمين، ولكن السلطان الفاطمي حرّره، وناقش معه في المسألة الدينية، في حمأة الحملات الصليبية.الدين والسياسة متلازمان، فحيث ينقص منسوب الحريات ينقص منسوب الحرية الدينية أو يزول

ووفق الروايات التاريخية، فإن القديس فرنسيس، نال الموافقة على التبشير بمعتقده في الأوساط الإسلامية، ولكن، وفق الوثائق، فإنه غادر مصر سالما، بعد انتهاء الضيافة الحوارية.

وفي القرن العشرين، أعطيت هذه الواقعة التاريخية أبعادا حديثة، بحيث كانت ركيزة أساسية في الدعوات المتواصلة إلى وجوب تعميق الحوار الديني بين الإسلام والمسيحية.اقرأ للكاتب أيضا: الطاغية والمؤامرة

وعلى الرغم من حصول كثير من الاجتماعات الرسمية بين قيادات روحية مسيحية وإسلامية، على مدى العقود الطويلة السابقة، إلا أن الشعوب لم تلمس، في الواقع، أي تغييرات ميدانية ملموسة؛ فالحروب باسم الدين مستمرة، والقتل باسم الله يتواصل، والانشقاقات باسم الطوائف تتفاقم، والحقد الذي يُعمي العقول يتعاظم.

فماذا يمكن، والحالة هذه، للحدث الإماراتي أن يُنتج؟

“الكوب” الذي أنتجته زيارة البابا فرنسيس وبرنامجها، ليس ممتلئا بالكامل ولكنه ليس فارغا كلّيا.

في الجزء الممتلئ، نجد أن المعتدلين الدينيين عثروا على مستند يعتمدون إليه، من أجل نشر اعتدالهم، والمسيحيين الخائفين من وضعيتهم في العالم الإسلامي أصبح لهم مرتكزا للطمأنينة، والمسلمين الذين تشوّهت صورتهم في العالم، بسبب إرهاب الراديكاليين، باتت لديهم وثيقة يطلون بها على الرأي العام المختلف لتبرئة دينهم من الحملة التي يتعرّض لها، في ظل تنامي اليمين المتطرف في أوروبا وغيرها.

وفي الجزء الممتلئ أيضا، فإن السعي إلى إعادة الأزهر الشريف مرجعية معنوية للمسلمين شهد زخما، في حين أن بابا الفاتيكان الذي أعلن، منذ اعتلائه سدة البابوية، السير على هدى القديس فرنسيس الأسيزي، نجح في رفع لواء الكاثوليكية في الشرق، كما أن دولة الإمارات العربية المتحدة التي تلاحق “الإخوان المسلمين” وتتصارع مع الدول التي تدعم هذا التنظيم، سجّلت نقطة جديدة لها في “الجزء المضيء” من الكرة الأرضية.

ولكن في الجزء الفارغ من “الكوب”، فإنّ التحديات الحقيقية لا تزال حيث كانت قبل “حدث الإمارات”.

على المستوى البابوي، فإن تأثير الفاتيكان ضحل في أوروبا، بغض النظر عن عدد الكاثوليك في هذه القارة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فعلى الرغم من أن عاصمة الكثلكة اتخذت مواقف إيجابية من موضوع اللاجئين داعية إلى استقبالهم وحسن معاملاتهم، إلا أن هذا الجهد الصادق الذي كانت له تفسيرات مسيحية، لم يمنع من صعود اليمين المتطرف، حتى في إيطاليا نفسها، مستفيدا من خطاب الكراهية ضد هؤلاء اللاجئين.

وفاتيكان هذا العصر هو غيره في العصور الغابرة؛ فتأثيره، في ظل العلمانية، يكاد لا يذكر لا في المناهج التربوية ولا في الخطط الحكومية، ولا في المسارات الإعلامية.

والمنهج الذي يعتمده اليمين المتطرف، لا يبني نفسه على وثائق، فحادثة إرهابية واحدة قادرة على ترجيح كفة الرأي العام أكثر من أكثر الوثائق رقيا وانفتاحا.

كما أن البابوية، ومنذ عقود طويلة، تخلّت عن خطاب “الحملات الصليبية” و”أحادية الحقيقة”.في الجزء الممتلئ، نجد أن المعتدلين الدينيين عثروا على مستند يعتمدون إليه، من أجل نشر اعتدالهم،

وعلى المستوى الإسلامي، وبغض النظر عن النيات الصادقة التي عبّر عنها الإمام الأكبر، فإن المشاكل التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية لم تكن يوما نتاج توجيهات مرجعية الأزهر، ومنها على سبيل المثال، المشاكل التي تعترض الأقباط في مصر، والأحزاب المرتكزة على الدين كـ “الإخوان المسلمين” والقوى الراديكالية التي تعتمد العنف مثل “القاعدة” و”داعش”، وتنوّع المرجعيات التي تتوّلى الإرشاد في المساجد والتعليم الديني في المدارس.

يضاف إلى ذلك أن “مجلس حكماء المسلمين” الذي تولى رسميا تنسيق البعد الحواري لزيارة البابا هو على خصومة مع “الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين”، ويتجسّد هذا الخلاف، في النقاط الجغرافية حيث يقع مقرا هاتين المجموعتين، فالأولى مقرها دولة الإمارات والثانية مقرها إمارة قطر، وهما، كما هو معروف، في “حرب باردة”.

وهنا، يأتي البعد السياسي، فالأخوة الإنسانية، على أهمية الوثيقة وجماليات صوغها، تحتاج، أول ما تحتاج، إلى أنظمة تتلاءم مع الأخوة والإنسانية معا، وهذا يستحيل، في ظل الديكتاتوريات التي تتاجر، بطبيعتها، بالأديان وتنتج نوعين من الناس: عبّاد الحاكم، من جهة، والهاربون منه إلى الراديكالية، من جهة أخرى.

ومنذ الأزمنة الغابرة، يعرف من يريد أن يعرف أن الدين والسياسة متلازمان، فحيث ينقص منسوب الحريات ـ تتقدمها الحرية السياسية ـ ينقص منسوب الحرية الدينية أو يزول، وتاليا تنتفي الأخوة وتنعدم الإنسانية.

والتاريخ كما الحاضر شاهدان…

نقلا عن

فارس خشّان/

قناة الحرة