Saturday, September 21, 2024
x

150 مليون يغتسلون في النهر المقدس بالهند

أتيت أبحث عن الله وأجد إجابة لأسئلة تؤرقني منذ عقود” تقولها امرأة ستينية تتساقط قطرات الماء من جسدها، بعد أن خرجت لتوها من المياه في نهر “الغانج” المقدس، حيث يأتي “الحجاج” الهندوس من كل أرجاء الهند للاغتسال من خطاياهم، مؤمنين أن الاستحمام في هذا النهر يطهر الجسد من الأمراض والروح من الخطيئة، وفق معتقدهم.


لم تكن تلك المرأة وحدها هي من تسيطر عليها هذه المشاعر والمعتقدات، فما أن تطأ قدماك مدينة براياجراج بولاية أوتار براديش (الله أباد سابقاً) في أقصي الشمال الهندي، تجد الملايين من الهندوس، قد قطعوا ألاف الكيلومترات للقدوم إلى هذا المكان “المقدس” وفق معتقدهم، بحثا عن “استعادة الشباب”، وتجديد الإيمان والعهد مع الله، عبر الاغتسال عند ملتقى نهري الغانج ويامونا مع نهر ساراسواتي “الأسطوري”.
وخلال المهرجان الديني، أو الحج الهندوسي، الذي يمتد لنحو 8 أسابيع (بدءا من 20 من يناير 2019)، قدرت السلطات الهندية أن يصل عدد زواره لنحو 150 مليون شخص هذا العام، بما في ذلك مليون زائر أجنبي، حيث يؤمن الهندوس المتدينون وحتي الزائرون من الأناس العاديون بمعتقدات مختلفة، بأن الاستحمام في مياه الغانج يغفر الخطايا وبأن الاغتسال وقت مهرجان كومبه ميلا أو “مهرجان الوعاء المقدس” يجلب الخلاص من دورة الحياة والموت.
تروي المرأة الستينية، القادمة من أجرات (أقصي الغرب الهندي): “ولدت مسيحية كاثوليكية، ومنذ لحظات طفولتي لم يكن هو الدين الصائب بالنسبة لي.. حاولت طوال العقود الأخيرة البحث عن إجابات بعينها .. ولكن لم أجد إجابات إلى أن قدمت إلي كبه ميلا حيث الروحانيات داخل ذاتك النفسية وتجديد العلاقة مع الله”.


مهيما ميسرا، التي جاءت بصحبة أسرتها المكونة من 4 أفراد إلى موقع “الحج” الهندوسي، تضيف بعد أن خرجت لتوها من الاغتسال في “النهر المقدس”: “أن تكون وسط الملايين من الناس القادمون من أرجاء الأرض لغسل ذنوبهم وأخطائهم وتجديد إيمانهم مع الرب فهذا شيء عظيم .. إنها حقا تجربة فريدة ومميزة من نوعها، لتعميق الممارسة الروحية”.


ووفق منظمة الأمم المتحدة للعلوم والتربية والثقافة “اليونيسكو”، يعد مهرجان كومبه ميلا (الوعاء المقدس) أكبر تجمع سلمي للحجاج في العالم، حيث يقصد زواره نهر الغانج ليستحموا أو يغطسوا فيه اعتقاداً منهم بأن هذا الفعل يخلِّص الإنسان من الخطايا ويحرره من دورة الولادة والموت.


ويقام مهرجان كمبه ميلا، كل أربع سنوات في واحدة من أربع مدن بالتناوب هي أوتار براديش (الله أباد سابقاً) وهاريدوار وأوجان وناشيك ويحضره ملايين الناس بغض النظر عن الطائفة أو العقيدة أو الجنس.
ولهذا المهرجان دور روحي أساسي في الهند وله تأثير هائل على شعبها.


حيث يجمع وفق زائريه بين علم الفلك، والتنجيم، والروحانية، والتقاليد الطقسية، والعادات والممارسات الثقافية والاجتماعية، ما يجعله مهرجاناً زاخراً بالمعرفة بتجلياتها المختلفة.
وبما أن المهرجان يقام في 4 مدن مختلفة في الهند، صار من الطبيعي أن يعبر عن أنشطة اجتماعية وثقافية مختلفة، ما جعله بالتالي مهرجاناً متنوعاً على المستوى الثقافي.
وتُستقى المعارف والمهارات المتعلقة بهذه التقاليد من المخطوطات الدينية القديمة، والتقاليد الشفوية، وكتب الرحلات التاريخية والنصوص التي كتبها كبار المؤرخين.
ولكن تبقى العلاقة بين التلميذ والأستاذ أو المريد والشيخ فيما يتعلق بالنساك المعتكفين في المعتزلات (الأشرم) والزهاد أهم وسيلة لنقل وصون المعارف والمهارات الخاصة بالكمبه ميلا، بحسب “اليونيسكو”.

أغرب معتقدات “كمبه ميلا” 
ما إن تطأ قدماك مدينة براياجراج الهندية، حيث يقام “كمبه ميلا” هذا العام، ثمة أناس عابدون تائبون يرجون الاغتسال من خطاياهم، وأينما ذهبت عيونك تجد المكان زاخراً بجمع هائل من الزهاد والقديسين والنساك (من طبقة السادهو) والمتعبدين من فئة الكالبافاسي والزوار، أما الحاملون الأساسيون لهذا التراث فهم الزهاد من فئة الأخادا وأصحاب المعتزلات الهندوسية (يسموا أشرام) وكذلك المنظمات الدينية أو الأفراد الذين يعيشون على الصدقة، حيث يكسو أجسادهم الرماد وبعضهم يعيش في الكهوف، يكونون عراة إلا من سترة على الوسط، ومنهم من يخلع تلك السترة ليكون عاريا تماما.


وبحسب البروفيسور المختص في التاريخ الهندي نيشا بنجاني، فإن “كمبه ميلا يمثل اختصاراً الرحلة من عدم اليقين إلى اليقين، ومن الظلام إلى النهار، ومن الموت إلى الخلود، فهو مهرجان يعكس حالة التسامح والسلام الاجتماعي والنفسي لدى زواره وبين الجنسيات والمعتقدات المختلفة”.


يضيف بنجاني، “يسيطر على قاصدي الحج الهندوسي شعور بوحدة المقصد، وبأن يتخلصوا من الشرور، ويتطهروا في النهر المقدس، يتوافدون إلى المكان ويغمرون أجسادهم في مياه النهر، ويملؤون أوعية حملوها معهم من النهر، ويسكبونها على رؤوسهم للاغتسال من الخطايا”.


وبتأمل مئات الألاف في النهر أو على ضفتيه حيث يقيمون في خيام أعدت لذلك الغرض طوال فترة المهرجان الديني، يلاحظ المتتبع اختلافاً طفيفاً في الشعائر بين فئة وأخري، ما يعكس تنوعا بين المشاركين.
ففي الوقت الذى تري فيه بساطة في الاغتسال والغطس في النهر وسكب المياه على الأجساد بعد تعبئتها في قارورات، تجد نساكاً هندوس يعرفون بالناجا سادهو، ملطخة أجسادهم بالرماد وشعورهم مجدولة وعراة إلا من عقود من الخرز وبتلات الزهور ويدخنون غلايين خشبية، حيث يعتبر المهرجان أحد الفرص القليلة، بالنسبة لهم لرؤية هؤلاء الزاهدين الذي يعيش بعضهم في كهوف بعد أن أقسموا على التبتل والزهد في المتاع الدنيوي، وعند نزولهم إلى الماء للاغتسال، يكون الكثير منهم مسلحون بالرماح والسيوف، وهو أحد أبرز مشاهد المهرجان.


يقول ناسك من مدينة “ماتورا المقدسة” في شمال الهند، ندناد سواتي ” كمبه ميلا هو تجمع لكل الناجا سادهو في نقطة التقاء هذه الأنهار المقدسة، يقدمون رسالتهم إلى الناس ويساعدون الناس على تغيير أنفسهم والاغتسال من خطاياهم”. مضيفاً “ينزل الزاهدون خلال المهرجان، في أديرة مؤقتة تعرف بالأكهارا على الضفة الشرقية لنهر الجانج، ويمضي الناسكون الوقت في التأمل وتدخين القنب واستقبال الزوار القادمين لإبداء الاحترام لهم”.
يتابع الناسك : “يشرب معظم الحجاج قطرات من مياه نهر الغانج والكثير منهم يملأون زجاجات من مياه هذا النهر لأخذها معهم حينما يعودون إلى منازلهم”.
ويعبر زائر أجنبي، يدعي أدولين، من جنوب أفريقيا، جاء ليزور تلك الأديرة، قائلاً “يبدو الأمر كالحلم، تقرأ عنهم لوقت طويل. يصبحون أشبه بشخصيات خيالية ثم تلتقي بهم”.
ويضيف: “من أبرز النشاطات التي تميز المهرجان فعالية “سادهوس” التي يقود خلالها الرجال الهندوس الذين يحظون بالقداسة المسيرات بمشاركة الفيلة والجمال والخيول والعربات والفرق الموسيقية”.

أصل المهرجان
وفق عدد ممن قابلتهم “الشروق” خلال جولتها في مكان المهرجان، ومن بينهم رجال دين، فإن أصل مهرجان “كمبه ميلا” يعود إلي آلاف السنين وتحديداً خلال العصر الفيدى (ما بين 1000/ 2000 عام قبل الميلاد).
تقول الأسطورة الهندوسية للاحتفال إنه في تلك الفترة، انتزع الإله فيشنو (الإله الأعلى أو الحقيقة العليا في الهندوسية) وعاء ذهبيا يحتوي على رحيق الخلود من الشياطين.
وخلال 12 يوما وليلة من الصراع على الوعاء سقطت أربع قطرات من الرحيق إلى الأرض في مدن براياجراج وهاريدوار وأوجاين وناشيك، اللواتي يقام بهن المهرجان بالتناوب. 
وذلك قبل أن تتوصل الآلهة والشياطين لاتفاق مؤقت يقضى بالتعاون على خض رحيق الخلود في محيط اللبن الأولى وتقسيمه بالتساوي بينهم.
لكن عندما ظهرت الكومبه (القارورة) التي تحوى الرحيق هربت الشياطين بها ولحقت بها الآلهة.

تأمين نحو 150 مليون زائر خلال أسابيع
للوهلة الأولي حين تسمع كزائر أجنبي، لأول مرة يحضر طقس ديني يتوقع أن يحضر 150 مليون شخص مختلفي المذاهب، تتبادر أسئلة إلى ذهنك عن إمكانية تأمين مثل هذا التجمع الهائل من البشر، لكن مع وصولك إلى مكان المهرجان، تلاحظ الاستعدادات الأمنية المكثفة، لتأمين مثل ذلك الحدث، في بلد تعداد سكانه يصل لنحو مليار و300 مليون نسمة، يصبغهم تنوع هائل ومتفرد في اللغة أو المعتقد أو الثقافة.


منذ الوصول إلى مطار ولاية ” أوتار براديش”، الذى يبعد نحو 30 كيلو متر عن موقع الاحتفال، لا تجد عناء في ملاحظة تحليق مكثف للطائرات الهيليكوبتر في السماء، فضلا عن اصطفاف الآلاف رجال الأمن على جانبي الطرقات المؤدية إلى مكان الاحتفال، وصولا بآلاف المتطوعين الهنود، من أديان وثقافات مختلفة، قدموا لمساعدة الحجيج الهندوس.


بينما أقامت السلطات الفيدرالية الهندية، عشرات المستشفيات ومئات المطابخ وألاف الحمامات المحمولة، والخيام لتسهيل المناسك على قاصدي المهرجان، وإقامة عدد من نقاط التفتيش.
ومع اقترابك من موقع الاحتفال، يمكنك رؤية الدخان وهو يتصاعد من مئات المواقد الصغيرة التي يشعلها الحجاج بهدف إعداد الطعام، حيث يأتي الزوار إلى المنطقة يحملون أمتعتهم فوق رؤوسهم بينما يقوم باعة ببيع الحلوى وغزل البنات وبالونات مضيئة.
يقول أحد حفيظ، المسلم الهندي المتطوع لمساعدة الحجيج الهندوس: “هذه أول مرة أحضر كمبه ميلا، فأنا انتمي بالأساس لمنظمة تطوعية بولاية أوتار براديش، من ضمن عملها مساعدة الحجاج وقت الاحتفال بالمهرجان الديني”.
حفيظ، الثلاثيني، يضيف: “الناس يأتون إلى هنا لأداء طقوس مختلفة بداية من الصلوات على الأرواح التي غادرت عالمنا إلى نثر رماد موتاهم. يأتي الناس للصلاة من أجل أسلافهم أو تقديم قرابين من الملابس أو الأبقار .. كل شيء يحدث داخل مركز براياجراج العظيم للحج”.


وخلال المهرجان تجد مهنة الكاهن الهندوسي، رواجًا وانتعاشًا حقيقيَّين، حيث يقيم الصلوات يوميًّا أمام المئات من أتباع الديانة الهندوسية الذين يدفعون له رسومًا مقابل تحقيق أمانيهم. ووفق أحد الكهنة الهندوسيين، فإنه “يقيم تلك الصلوات منذ عشرات السنين حيث ساعد أجيالًا من الزوار على أداء طقوسهم المختلفة بداية من الطقوس الأخيرة التي أداها أسلافهم وحتى الصلوات الأولى لحديثي الولادة”.

ويأتي مهرجان كومبه ميلا هذا العام في وقت حرج لحزب بهاراتيا جاناتا القومي الهندوسي الذي يتزعمه رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي والمتوقع أن يواجه منافسة قوية في انتخابات عامة مقررة في مايو المقبل، وذلك بعد أن خسر الحزب السلطة في 3 ولايات رئيسية في انتخابات محلية جرت في ديسمبر الماضي ويريد تجنب نتيجة مماثلة خلال الانتخابات العامة في ولاية أوتار براديش التي يبلغ عدد سكانها 220 مليون نسمة حيث يمكن للأداء الجيد أن يحدد مسار المنافسة في كثير من الأحيان.
وعلى هامش المهرجان، التقي رئيس الوزراء، مودي، بأكثر من 100 زائر أجنبي من مختلف أنحاء العالم، كان من بينهم مراسل “الشروق”، حيث شدد مودي خلال اللقاء، على نموذج التعايش والسلمي بين مختلف الثقافات والديانات في الهند، ولم يخل حديث مودي، عن الإشارة للانتخابات العامة المقبلة، التي اعتبرها بمثابة فرصة كبيرة لإزهار التطور الديمقراطي في الهند للعالم، حيث تعتبر الهند أكبر ديمقراطية في العالم.