الشهيدات الأرمنيّات كما في مذكرات المطران جان نازليان
تميّزت نساء ماردين الأرمنيّات الكاثوليكيّات، على غرار أزواجهنّ وأولادهنّ، بقدرتهنّ على احتمال العذابات اللاإنسانيّة بشكل بطولي، وبالمثابرة على الحفاظ على إيمانهنّ وشرفهنّ بكلّ شجاعة، من دون أن يمسّهما أحد، وذلك حتّى الموت. ولاقى هذا الموقف، الجدير بالمسيحيّات الحقيقيّات، دهشة لدى الأعداء الذين قاموا بأبشع الانتهاكات بحقّهنّ، وبحقّ أولادهنّ الذين قتلوهم، وقطعوهم إربًا إربًا، أمام أعينهنّ في معظم الأحيان. إنّ هؤلاء الوحوش ذوو الوجوه البشريّة، بعد أن صبّوا نزواتهم الهمجيّة على تلك الضحايا البريئات، لم يكتفوا بنهبهنّ، ونزع الحلى عنهنّ، والاستيلاء على المال الذي كان بحوزة هؤلاء السيّدات النبيلات، بل جرّدوهم من ملابسهنّ، وعرّضوهنّ لأقبح الممارسات المؤسفة، وذلك قبل الإجهاز عليهنّ. وهم لم يكتفوا بإشباع شهواتهم الحيوانيّة من الأحياء، بل قاموا حتّى بتدنيس جثثهنّ. يُشير الخوراسقف أحمرانيان إلى هذا الأمر، وينقل فيما يلي ما سمعه بلسان شهود عيان جديرين بالثقة:
ليل الخميس 15 تموز، هرع الجنود إلى بيوت أكبر الأغنياء في المدينة. وكان بيت عائلة جينانجي، الواقع بالقرب من كنيسة السريان الكاثوليك، البيت الأوّل الذي قاموا بتطويقه. أَعلَموا السيّدة شمّي [شمونه] زوجة نعوم جينانجي بوجوب الاستعداد للرحيل مع بناتها. تأثر جميع أفراد الأسرة لهذا الأمر المحزن، فركعوا وصلّوا وتوسّلوا العون والمساعدة من الله. رآهم المطران جبرائيل تبوني، رئيس أساقفة السريان الكاثوليك، من خلال النافذة، فباركهم وشجّعهم على الثبات في جهادهم المقدّس، حتّى الموت.
– انتقل الأعداء من بيت عائلة جينانجي إلى بيت عائلة شلمّي وعائلة بوغوص. أُصيبوا بدهشة كبيرة حين رأوا النساء والفتيان والفتيات مرتدين الملابس البيضاء، وحاملين الشموع المضاءة، ينزلون الدرج كما لو كانوا في طريقهم لحضور حفل زفاف أو احتفال في الكنيسة. إنّه موكب العذارى الحكيمات الذاهبات لملاقاة العريس السماوي.
– ثمّ توجّهوا إلى منزل عائلة كَسبو، وأخرجوا جميع الموجودين فيه، من دون استثناء. وهكذا جابوا جميع بيوت الأرمن الأغنياء، وألقوا القبض على القاطنين فيها، كبارًا وصغارًا، ووضعوا الأختام على الأبواب بغية العودة إليها لاحقًا والاستيلاء على المغانم: الممتلكات والأثاث والتجهيزات والسجاد وغيرها، وتوزيعها على القضاة والضباط ورؤساء المكاتب.
– صباح يوم الجمعة الواقع فيه 16 تموز، اقتيدت النساء حاملات الرضّع، والمحاطات بأولادهنّ الصغار إلى تلّ أرمن. في اليوم التالي، غادرت القافلة تلك القرية المسيحيّة إلى قرية عبد الإمام الواقعة عند مكان ضيّق يجري فيه نهر الزرقان. في هذه القافلة المؤلّفة من النساء والأولاد، كان أيضًا بطرس جينانجي، وشكري كَسبو، وفتح الله شلمّي، وبولس مخولي، وبوغوص، وابن نعوم جينانجي، والأب أوهانس بوطوريان، قُتلوا كلّهم في تلك القرية السابق ذكرها. وبعد أن جرّدوا النساء من ثيابهنّ، نقلوهنّ إلى الوادي بالعربات، مجموعة تلو الأخرى، حيث تمّ قتلهنّ أو حرقهنّ أو إطلاق النار عليهنّ. أمّا الأكراد، فكانوا يخطفون الرضّع والأولاد من أمهاتهم.
– من بين النساء البطلات، نُشير إلى السيّدة روزا، زوجة شفيق آدم، التي صرخت في وجه الجلاّدين قائلة لهم: “لماذا تسمحون للأكراد بخطف الرضّع؟ أمّنوا الحماية لنا أو اقتلونا لنتخلّص منكم ومنهم”.
– أراد الشيخ طاهر الأنصاري اغتصاب زوجة فتح الله شلمّي، لكنّها صدّته بسخط، فقتلها هذا الوحش على الفور.
– في 17 حزيران 1915، اقتيدت قوافل من النساء الشابات اللابسات القمصان، في مجموعات قليلة العدد، إلى سوريا وحدود الحجاز، إلى الطفيلية وغيرها من الأماكن، حيث أُطلقت النار عليهنّ.
– خُصّص 26 و 31 تموز للقوافل المؤلّفة من النساء الكبيرات في السنّ والرضّع، اقتيدوا إلى شدادي [مدينة سوريّة تقع جنوب مدينة الحسكه]، وكان معهم عائلات بابيكيان وغارابيديان وحنجو الذين قُتلوا ورُميت جثثهم في آبار تْوا.
وهكذا أُفرغت ماردين من الأرمن، ولم يبق فيها سوى عدد قليل جدًّا نجا من الملاحقة عن طريق الصدفة. لجأ عدد لا بأس به إلى جبال سنجار حيث رحّب بهم زعيم القبيلة، حامو شرّو، ولاقوا عنده كلّ عطف. وبفضل عنايته، تمكّن هؤلاء البقايا من الماردينيين بالنجاة من المجازر، والعودة إلى مسقط رأسهم بعد الهدنة.
0 comments