الأمير الحسن بن طلال يكتب: القتل الجماعي على أساس ديني
ما شهدناه أخيرًا في العالم من القتل والقتل المضاد على أساس ديني، والذي يتخذ العالم بأسره مسرح نشاط مفتوح له، من قبيل ما حصل بالولايات المتحدة ونيوزيلندا وأخيرًا في سريلانكا. هذا الوضع لا يهدد استقرار وأمن العالم فحسب، إنما يفرغ القيم الدينية من مضمونها الروحي ودافعها الأخلاقي، ويحولها إلى صراع عصبيات ومنطق غلبة ورغبة انتقام.
ينقل الخطاب الديني المصحوب مع هذا النشاط الإجرامي، مفهوم الدين من منطق تقديس للإنسان إلى منطق فناء وإبادة له، من منطق إعمار للحياة إلى منطق تعطيل لقواها وشلها عن تحقيق مقاصدها وكمالاتها، من منطق الشفقة والتعاطف إلى منطق القسوة وإشفاء غليل الحقد والكراهية وإطلاق كامل طاقة التدمير الكامنة في كل إنسان، من منطق الكرامة إلى منطق الإذلال، من منطق السلم والأمن إلى منطق حرب الكل ضد الكل والإنسان ذئب لأخيه الإنسان.
هل الدين يحمل طاقة وقوة هذا التحوّل وهل لديه قابلية استجابة لهذا الجنون السائد؟ بالطبع لا. القضية ليست قضية تأويل مغلوط للدين أو سوء استعمال لنصوصه فقط، بل قضية واقع عالمي يعاني انسدادات خطيرة نتيجة سوء إدارته. بحيث يتولد من سوء هذه الإدارة كوارث خطيرة ليس فقط على واقع البشر فحسب، وإنما على علاقاتهم وقيمهم ونمط عيشهم.
لم تكن القضية يومًا قضية صراع ديني، بين مسيحي أو مسلم أو بوذي أو يهودي أو هندوسي، أو غيره. وإنما في تحويل الدين إلى عصبية خائفة ومضطربة وقلقة على مصيرها ووجودها. إلى تضخيم الخوف من الآخر بمسوغات دينية، إلى تحويل المعتقد الديني مسلكًا إقصائيًا يحصر الخلاص بمعتقد واحد ويحول الاختلاف بين البشر لمظهر لعنة وإدانة. بات الدين عمومًا واقعًا داخل دوامة قوى الإنتاج والسوق، وتعاد صياغة قيمه وإيحاءاته بطريقة تستجيب لعالم تكثيف الإنتاج وتحفيز السوق، الأمر الذي أوقع الخطاب الديني إما في مواعظ شكلية وتبجيلية لا ترقى إلى مستوى التصدي لمشكلات الواقع ومحاولة ترشيده وإما في خطب إدانة وأحكام سلبية من الواقع القائم. أي إما يكون خطابًا دينيًا مدجنًا وإما خطابًا منعزلا ونرجسيًا يتفنن في صنوف الإدانة دون أن يقدم شيئًا للعالم.
لا ننكر وجود اتجاهات عالمية تعمد إلى إعطاء القيمة والكرامة الإنسانيتين موقع الصدارة في صناعة السياسات وترتيب الأولويات، بيد أن هذه الاتجاهات والطاقات تتعرض للاختراق السياسي من جهة والتهميش من جهة أخرى، بحكم أن الانتظام العام الذي يحكم العالم متجه نحو تركيز الثروات بيد قلة قليلة ونحو سباق التسلح، الأمر الذي يجعل الإنسان وسيلة لا غاية، ويجعل العالم محكومًا لإرادات اعتباطية ومزاجية ومتقلبة لا لقاعدة أخلاقية كلية تقربنا من مبادىء الحرية والمساواة والكرامة الإنسانية.
العالم يتغير بسرعة ولكن للأسف فإن الاستجابة الأخلاقية والاستيعاب الإنساني لهذا التحول يسير بوتيرة بطيئة. وهو أمر يخلق فجوة بين عولمة تتحكم بمفاصلها رأسمالية متوحشة من جهة، وبين انتظام أخلاقي مفترض للواقع يدفع به باتجاه أولوية الأمن الإنساني بجميع أبعاده الحياتية والمعنوية والروحية.
ما قامت به السلطة في نيوزيلندا من امتصاص تداعيات العمل الإرهابي وتأكيد التعايش السلمي القائم على قاعدة المساواة بين مكونات مجتمعها، هو أمر تقدر عليه ونثمنه كثيرًا كمسلمين. وما فعلته دولة سريلانكا من عدم إعطاء الحدث الإرهابي ضد المؤمنين أثناء صلاتهم في كنائسهم بعدًا دينيًا أو طائفيًا هو أمر إيجابي وحكيم. هي مواقف نثمنها، لكنها لا تكفي لإيقاف الجنون الإجرامي، الذي يحمل خطابًا قابلا للاستقطاب والتعبئة ويحمل جاذبية لدى العديد من المتهورين والمأزومين. ما نحتاجه هو تكاتف جميع الطاقات لمحاصرة خطاب الكراهية وتجفيف منابعه، ومعالجة الأسباب المؤدية إلى نشوء دوافع القتل الجماعي باسم الدين أو باسم تفوق عرقي أو ثقافي معين. وهي عملية تتعلق بتطوير الخطاب الديني الذي لا يقتصر على إعلان النيات الحسنة بل يعمد إلى استعادة البعد المغيب من الوجود الإنساني الذي تم تجريفه، وتتعلق بالذهنية الدينية التي تولى للإنسان قيمة مركزية في تأويلاتها وفهمها، وتتعلق بصناعة سياسات الدول في العالم التي تتعامل مع الإنسان بصفته طاقة إنتاج لا مظهر حياة خلاقة، وتتصل بالعمل على مأسسة القيمة الإنسانية، ليتحول المضمون الإنساني من رغبة وتمنٍ إلى فاعلية حاضرة في صنع القرار وتوجيه السلوك وتأطير الوعي والتفكير فى العالم.
القضية تتعلق بأي عالم نريد أن نعيش فيه، وبالقيم الرافعة لهذا العالم، لتعطيه معناه ودوافعه ومغازيه. فالسؤال الجوهري الذي يسبق أي سؤال بما فيه السؤال عن حقيقة العالم الذي نعيش أو نوجد فيه هو: ما معنى أن نعيش أو نوجد في هذا العالم؟ المسألة آخر الأمر هي مسألة معنى (Meaning) لا مسألة حقائق (Facts) فقط.
(جريدة الأهرام المصرية)
0 comments